فصل: تفسير الآيات (17- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.سورة عبس:

.تفسير الآيات (1- 16):

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}
عبس: قطّب وجهه من ضيق الصدر. تولّى: أعرض: أن جاءه الأعمى: لأن الأعمى جاء عنده، يزكّى: يتطهر بما يتعلم من الدين. تصدّى: أصله تتصدّى بتاءين ومعناه تقبل عليه، وتتعرض له. تلهّى: تتغافل عنه. تذكِرة: موعظة. فمن شاء ذكَره: فمن شاء اتعظ به. في صحف مكرّمة: كتب شريفة في موضع التكريم والتعظيم. مرفوعة: عالية القدر والشأن. مطهَّرة: منزهة عن العبث والنقص. سَفَرة: الملائكة لأنهم السفراءُ بين الله تعالى ورسله الكرام. بررة: جمع بارّ وهم الأطهار.
نزلت هذه السورةُ الكريمة في عبدِ الله بن أُم مكتوم ابن خالِ خديجة بنتِ خويلد رضي الله عنها، وكان رجلاً أعمى، ومن أول الناس إسلاما. وكان من المهاجرين الأولين والمؤذِّنَ الثاني لرسول الله، وقد استخلفه الرسولُ الكريم على المدينة، وكان يصلّي بالناس مرارا. وقد جاء هذا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده جماعة من زعماءِ قريش منهم: عتبة وشَيبة ابنا ربيعة، وأبو جهلٍ عمرو بن هشام، والعباسُ بن عبد المطلب، وأُميةُ بن خلف، والوليدُ بن المغيرة. وكان النبي الكريم محتفياً بهم يدعوهم إلى الإسلام ويرغّبهم فيه رجاءَ أن يُسلموا، لأنه يعلم أنهم إذا أسلموا تَبِعَهم خَلْقٌ كثير.
فجاء ابنُ أُم مكتوم وقال: يا رسولَ الله، أرشِدني، وعلِّمني مما علمك الله.. وكرر ذلك وهو لا يعلم من عنده. فكره الرسولُ قَطْعَه لكلامه، وظهر ذلك على وجهه، إذ عَبَسَ وأعرض عنه.
وقد عاتب الله نبيَّه الكريمَ بأنّ ضَعْفَ ذلك الأعمى وفقره لا ينبغي ان يكون باعثاً على كراهةِ كلامه والإعراضِ عنه، فإنه حيُّ القلب ذكيُّ الفؤاد، إذا سمع الحكمةَ وعاها، فيتطهَّرُ بها من أوضارِ الشِرك.
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى}.
ما يدريك يا محمد لعلّ هذا الأعمى يتطهّر بما يسمعه منك، وما يتلقاه من العِلم والمعرفة، أو يتذكر بها ويتّعظُ فتنفعُه الذِكرى.
وبعد نزول هذه الآيات جَعل الرسولُ يكرِم عبد الله هذا ويُقبِل عليه ويقول له إذا رآه: أهلاً بمن عاتَبَني فيه ربّي، ويساله هل لك حاجةٌ.
ثم ذكَر اللهُ بعد ذلك أَمْرَ النبيّ الكريم مع زعماءِ قريش فقال: {أَمَّا مَنِ استغنى فَأَنتَ لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى}.
أما من استغنى عن الله بمالِه وقوَّتِه، فأنت تُقبل عليه حِرصاً على إسلامه، وتهتمّ بتبليغه دعوتَك، ولا حَرَجَ عليك أن لا يتطهّر من الشِرك والوثنية، ولستَ بمطالَبٍ بهدايته. هذا بخلاف من جاءك مسرعاً في طلب الهداية والعلم، فأنتَ تتلهّى عنه وتتشاغل بهؤلاء الزعماءِ الّذين لا يؤمنون ولا فائدةَ منهم، لأنّ اكثَرهم جحدةٌ منصرفون إلى المادة. لقد ألْهَتْهُم هذه الحياة الدنيا، فلا ينبغي الانصرافُ إليهم، والتصدّي لهم لمجرد الطمع في إسلامهم حتى يتبعَهم غيرُهم.
إنّ قوة الإنسان في حياةِ قلبه وذكاء لبّه، والإذعانِ للحق إذا ظهر، أما المالُ والعصبة والنَسب والأعوان والمراكز والتيجان- فهي كلها عوارٍ تغدو وترتحل، ولا يدوز ويبقى الا العملُ الصالح.
وفي هذا تأذيبٌ من اللهِ تعالى لأمةِ محمد صلى الله عليه وسلم. ولو تأدّبوا به لكانوا اليوم أرشدَ الأمم.
{كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ}.
إن الله لا ينصر دِينه بأمثالِ هؤلاء المتكبرين الجاحدين، فلا تهتمَّ يا محمد بهم. انما يُنصَر الحقُّ بالمؤمنين الصادقين أمثالِ ذلك الأعمى. وما هذه الآيات إلا موعظة، وهذا القرآن كافٍ في الهداية لمن طَلَبها، وما عليك الا البلاغُ والتذكير، فمن شاء اتّعظ بالقرآن الذي هو {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} عاليةِ القدر والمكانة بتعاليمها وحِكَمها البالغة {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} من الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسُله. وهم {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

.قراءات:

قرأ الجمهور: {فتنفعه} بضم العين، وقرأ عاصم: {فتنفعه} بنصب العين، وقرأ الجمهور: {تصدى} بفتح الصاد من غير تشديد، وقرأ نافع وابن محيصن: {تصدّى} بفتح الصاد المشددة.

.تفسير الآيات (17- 42):

{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}
قُتل الانسان: كلمة تقال للدعاء عليه بالعذاب. فقدّره: أنشأه في اطوار مختلفة. ثم السبيلَ يسّره: ثم سهّل له طريقه. فأقبره: فأماته وذهب به إلى القبر. وأنشره: بعثه بعد الموت. وقَضْبا: كل ما يؤكل من النبات والخضار والبقول غضاً طريا. غلبا: ضخمة، عظيمة. وأبّا: ما ترعاه الدواب. الصاخّة: القيامة، لأنها تصرع الآذان. شأنٌ يغنيه: شغل يصرفه عن مساعدة غيره. مسفرة: مشرقة، مضيئة. مستبشرة: فرحة بما نالت من البشرى. عليها غَبرة: ما يصيب الإنسان من الغبار والارهاق. ترهقها: تغشاها. قَتَرة: سواد كالدخان.
بعد أن ذكر القرآن الكريم على أنه كتابُ موعظةٍ وذكرى وهدى للناس، يبين الله تعالى هنا جحودَ الإنسان وكفرَه الفاحشَ ولاسيما أولئك الذين أُوتوا سَعةً من الرزق. ثم يذكّره بمصدر حياته ووجودِه، وأصلِ نشْأتِه، وكيف يسَّر له السبيلَ في حياته ثم تولى موتَه وبعثَه. ثم بعد ذلك ينعى على الإنسان تقصيره في أمره، وأنه لا يؤدي ما عليه لخالِقِه، فيقول: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ....}.
هذه جملةُ دعاءٍ على كل جاحِد، والمرادُ بيانُ قُبحِ حالِه وتمرُّده وتكبُّره، فما أشدَّ كفره مع إحسان الله اليه! والحقُّ أن الإنسان قد بلغ في كفره بالنعمة الإلهية مبلغاً يقضي بالعجب، فانه بعد ما رأى في نفسِه من آيات الله، وبعد أن مضى عليه تلك السّنون الطوال في الأرض، والتي شاهد فيها ما في هذا الكون الواسع العجيب من شواهدَ وادلّة ونظام بديع- لا يزال يجحَدُ أنعم الله عليه ولا يشكرها. ان الله تعالى لم يدَعِ الإنسان سُدى، فقد أرسل إليه الهداةَ إثر الهداة، غير ان الإنسان ظلّ سادراً في ضلاله، مغروراً بهذه الحياة الدنيا وما فيها من نعيم زائل.
لذا شرع اللهُ يفصّل ما أجمَلَه ويبيّن ما افاض عليه من النِعم فقال: {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ}
إنه من أصلٍ متواضع جدا.
{مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}
لقد خلقه اللهُ من نطفةٍ من ماء حقير، وقدّره أطوارا وأحوالا، وأتم خَلْقَه، وأودع فيه من القوى ما يمكّنَه من استعمال أعضائه، وصوَّره بأجملِ صورةٍ وأحسنِ تقويم.
{ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ}
ثم مهّد له سبيل الهداية، وسبيلَ الحياة، وأودع فيه أعظمَ خصائص الاستعدادِ ليعيشَ في هذه الحياة.
حتى إذا انتهت الرحلة، صار إلى النهاية الّتي يصير إليها كل حيٍّ بلا اختيار.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}
ثم قبض روحَه وأماته وكرّمه بأن يُقبر.
{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ}
حتى إذا حان الموعدُ الذي قدّره الله ليوم البعث اعادَه إلى الحياةِ للحساب والجزاء. وهذا موعدٌ لا يعرفه إلا الله. إذن فإن الإنسان ليس متروكا سُدى، ولا ذاهباً بغير حساب ولا جزاء. فهل قام بواجبه تجاه خالقه؟
{كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ}
كلا، إنه مقصّر لم يؤدِ واجبَه ولم يشكر خالقه، ولم يقضِ هذه الرحلةَ على الأرض في الاستعداد ليومِ الحساب والجزاء.
ثم أردف سبحانه بذكر الآياتِ المنبثّةَ في الآفاق، الناطقةَ ببديع صُنعِه والتي يراها الإنسان أمامه ماثلةً للعيان فقال: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ}
عليه أن يتدبّر شأن نفسه، وينظر إلى طعامه وطعام أنعامه في هذه الحياة: كيف يسذرناه له ودبّرناه! إنا أنزلنا الماءَ من السماء وجعلْنا منه كل شيء حي، وشققنا الأرضَ بالنبات كما تشاهدونه أمامكم، فأنبتْنا فيها حَباً يقتاتُ به الناسُ، وعنباً ونباتاً يؤكل رَطبا، وزيتونا طيِّبا ونخلاً مثمِرا غذاء جيدا، وحدائقَ ملتفة الأغصانِ جميلة. {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}.
وبعد أن عدّد الله تعالى نعمه على عباده، وذكّرهم بإحسانه اليهم في هذه الحياة، بحيث لا ينبغي للعاقل ان يتمرد- أردفَ هنا بتفصيلِ بعضِ أحوال يوم القيامة وأهوالِها فقال: {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة....}
إذا قامت القيامة التي بصيحتها تَصُكُّ الآذان وتصمّها، فإن المرء يهرب من أخيه ومن أُمه وأبيه، وزوجتِه وبنيه.. وهؤلاء هم أعزُّ الناس عنده. إن كل إنسان في ذلك اليوم له شأنٌ يَشْغَله عن غيره.
والناس في ذلك اليوم فريقان: فريقٌ ضاحك مستبشر بما سيلقاه من حُسن الاستقبال والنعيم المقيم، وفريق تعلو وجوهَهم قَتَرةٌ من سوادِ الحزن وكآبته. وهؤلاء هم الذين تمرّدوا على الله ورسوله {أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} فمصيرهم إلى جهنم.
إن من طلبَ الحق لوجه الحق وعَمِل به بإيمان وإخلاص فهو الذي يضحك ويستبشر يوم القيامة، ومن اتبع هواه وشغل نفسه بتبرير الأهواء، واحتقر عقله، ورضي جهلَه، وشغل نفسه بالجَدَل والمِراء والتماس الحِيَل لتقرير الباطل وترويج الفاسد (كما كان يفعلُ أعداء الأنبياء، ولا يزال يأتيه السفهاء لينصروا به إصرار الاغبياء) ثم يُتْبع ذلك بأعمالٍ تطابق ما يهوى وتخالف ما يقول.. فهو إلى جهنّم. وان المرء لَيجد الواحد من هذه الفئة يزعم الغيرة على الدين ولا تجدُ عملاً من أعماله ينطبق على ما قرره الدين.
فالدِّين ينهى عن المعاصي وهو يقترفها، والدين يأمر بصيانة مصالح العامة وهو يفتِكُ بها ويبذّرها لمصلحته الخاصة. والدين يطالب أهله ببذلِ المال في سبيل الخير، وهو يسلب المالَ ليكنزه، فإن أنفق منه شيئا صرفه في سبيل الشر. والدينُ يأمر بالعدل وهو أظلمُ الظالمين، والدين يأمر بالصِدق وهو يكذب ويحبّ الكاذبين.
فمن كان هذا شأنه فماذا يكون حاله يوم يتجلى الجبار، ويرتفع الستار! إنه سوف يجد كل شيء على خلاف ما كان يعرفه، يجد الحقَّ غير ما كان يعتقد، والباطلَ هو ما كان يعمل. عندئذٍ يتحقق أن ما كان يظنه من العمل خيراً لنفسه صار وبالاً عليها.
فهذا النوع من الناس سوف تخيب آمالهم يوم القيامة، ويحاسَبون حسابا عسيرا، ويصدق فيهم قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة}، أعاذنا الله من هول ذلك اليوم، وهدانا برحمته إلى العمل الصالح.

.قراءات:

قرأ أهل الكوفة {أنَّا} والباقون بكسر الهمزة.

.سورة التكوير:

.تفسير الآيات (1- 14):

{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}
كوّرتْ: لفَّت ومحي ضَوْؤهَا. انكدرت: تناثرت وتساقطت وانطمس ضوؤها. واذا الجبال سُيرت: زالت عن اماكنها. العشار: النوق الحوامل واحدها عشراء بضم العين وفتح الشين. عُطّلت: أُهملت بدون راع يرعاها ولا طالب. سُجّرت: تأججت نارا، واختلط بعضها ببعض. زُوجت: قرنت الأرواح بأجسادها. الموءودة: البنت التي دفنت وهي حية. الصحف: هي التي فيها اعمال البشر، تنشر للحساب والجزاء. كشطت: أزيلت. سعِّرت: أوقدت وأضرمت، أُزلفت: ادنيت وقرّبت. ما أحضرت: ما قدمته من خير أو شرّ.
في هذه الآيات الكريمة تصويرٌ رائع لما يحدثُ يومَ القيامة من أهوالٍ تُشيبُ الأطفالَ. فاذا طُويت الشمسُ واختفت، وتناثرت النجومُ- وزالت الجبالُ عن أماكنِها، وأُهملت النوقُ الحوامل (وقد خصّها الله بالذِكر لأنها أكرم الأموالِ عند العرب)، وجمعت الوحوش من أوكارِها ذاهلةً من شدّة الفزع. وإذا تأجّجت البحار وغدَتْ نيرانا ملتهبة (وتسجيرُ البحار يكون بتشقق الأرض وتفجر النيران من باطنها فيظهر ما فيه من نيران متأجّجة كما نشاهد من ثورات البراكين)- يذهب الماء عند ذلك بخارا، ولا يبقى في البحار الا النار. وهذا معنى قوله تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ}.
واذا قرنت الأنفس بأجسادها وعادت كل نفس إلى الجسم الذي فارقتْه عند الموت، فَزُوِّدت النفوس بأبدانها، وهي النشأةُ الآخرة، (وفي الآية ما يشعر بان النفوس باقية لم تمت، وانما تزوَّج بالبَدَن بعد انفصالها عنه).
واذا أُتي بالموءودةِ وسُئِلت عن السبب الذي لأجْله قُتلت.. (وكانت هذه العادة عند العربِ من أسوأ العادات، وكانت فاشيةً عندهم في الجاهلية، فكان بعضهم يدفنون البناتِ وهن أحياء، وبعضُهم يقتلونهنّ بشتى الوسائل: إما للغِيرة والحميّة، وإما من الخوف من الفقر والإملاق). فجاء الإسلام وأبطلَ هذه العادةَ السيئة، وأكرم الأنثى، وأعطاها حقوقها واحترمَها غاية الاحترام، وحلّت الرحمةُ محلّ الفظاظة، والرأفةُ محل الغِلظة بفضل هذا الدين القويم. فما أعظمَ نعمةَ الإسلام على الانسانية بأسرها!
{وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ}.
بعد أن تزول السماء، وتُنشَر الصحف، ويحاسَب كل إنسان على عمله، وتُبرز الجحيمُ بنيرانها المتأججة، وتقرَّب الجنةُ للمؤمنين- عند ذلك تعلم كلُّ نفس ما قدّمت من أعمال، فيذهب أهلُ النار إلى جهنم والمؤمنون إلى الجنةِ عند ربهم، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55].
والذي يجب علينا أن تعتقدَه أن أعمال العباد تظهر لهم ثابتةً مبيَّنة لا يرتابون فيها يومَ القيامة. وبعد أن اخترع الإنسان الكمبيوتر والآلات الحاسبة لم يعدْ هناك شيء مستغرَب في نشر الصحف يوم القيامة، وفيها حسابُ كل إنسان على أدقِّ وجه {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49].

.قراءات:

قرأ الجمهور: {سجّرتْ} بتشديد الجيم المكسورة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {سجرت} بتخفيف الجيم، وقرأ نافع وحفص عن عاصم وابن عامر وأبو عمرو: {نشرت} بكسر الشين من غير تشديد، والباقون: {نشرت} بتشديد الشين. وقرأ الجمهور: {سعرت} بكسر العين المخففة، وقرأ نافع وحفص وابن ذكوان: {سعّرت} بتشديد العين.